فصل: المسألة الثانية: (في انتقاض العهد بطعن الذمي في الدين):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المسألة الثانية: [في انتقاض العهد بطعن الذمي في الدين]:

إذَا طَعَنَ الذِّمِّيُّ فِي الدِّينِ انْتَقَضَ عَهْدُهُ لِقَوْلِهِ: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} إلَى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} فَأَمَرَ اللَّهُ بِقَتْلِهِمْ وَقِتَالِهِمْ إذَا طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أُمِرْنَا بِقِتَالِهِمْ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَكْثُهُمْ لِلْعَهْدِ.
وَالثَّانِي: طَعْنُهُمْ فِي الدِّينِ.
قُلْنَا: الطَّعْنُ فِي الدِّينِ نَكْثٌ لِلْعَهْدِ، بَلْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إنْ عَمِلُوا مَا يُخَالِفُ الْعَهْدَ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ.
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رُفِعَ إلَيْهِ أَنَّ ذِمِّيًّا نَخَسَ دَابَّةً عَلَيْهَا امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ، فَرَمَحَتْ، فَأَسْقَطَتْهَا، فَانْكَشَفَ بَعْضُ عَوْرَتِهَا، فَأَمَرَ بِصَلْبِهِ فِي الْمَوْضِعِ وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا حَارَبَ الذِّمِّيُّ نُقِضَ عَهْدُهُ، وَكَانَ مَالُهُ وَوَلَدُهُ فَيْئًا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: وَلَا يُؤْخَذُ وَلَدُهُ؛ لِأَنَّهُ نَقَضَ وَحْدَهُ.
وَقَالَ: أَمَّا مَالُهُ فَيُؤْخَذُ.
وَهَذَا تَعَارُضٌ لَا يُشْبِهُ مَنْصِبَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ عَهْدَهُ هُوَ الَّذِي حَمَى وَلَده وَمَالَهُ، فَإِذَا ذَهَبَ عَنْهُ ذَهَبَ عَنْ وَلَدِهِ وَمَالِهِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: إذَا نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ فَهُوَ عَلَى عَهْدِهِ، وَلَا يَعُودُ الْحُرُّ فِي الرِّقِّ أَبَدًا.
وَهَذَا مِنْ الْعَجَبِ، وَكَأَنَّهُ رَأَى الْعَهْدَ مَعْنًى مَحْسُوسًا، وَإِنَّمَا الْعَهْدُ حُكْمٌ اقْتَضَاهُ النَّظَرُ، وَالْتَزَمَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَإِذَا نَقَضَهُ انْتَقَضَ كَسَائِرِ الْعُقُودِ مِنْ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، فَإِنَّهَا تُعْقَدُ؛ فَتُرَتَّبُ عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ؛ فَإِذَا نُقِضَتْ وَنُسِخَتْ ذَهَبَتْ تِلْكَ الْأَحْكَامُ. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {وَإِن نَّكَثُواْ أيمانهم}
يقول: وإن نقضوا عهودهم {مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ}؛ يقول من بعد أجله، {وَطَعَنُواْ}؛ يقول: وعابوا {فِى دِينِكُمْ} الإسلام، {فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر}؛ يعني: قادة أهل الكفر ورؤساؤهم.
{إِنَّهُمْ لا أيمان لَهُمْ}.
قرأ ابن عامر لا {أيمان} بالكسر، وهي قراءة الحسن البصري أي لا إسلام لهم، والباقون بالنصب يعني: لا قرار لهم.
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر أية بهمزة واحدة والباقون بهمزتين.
ثم قال: {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}، يعني: لعلهم ينتهون عن نقض العهد. اهـ.

.قال الثعلبي:

{وَإِن نكثوا} نقضوا يقال منه: نكث فلان قويَّ حبله إذا نقضه {أَيْمَانَهُم} عهودهم {مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} عقدهم {وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ} ثلبوه وعابوه وذلك انهم قالوا: ليس دين محمد بشيء {فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر} قرأ أهل الكوفة أأُمّة الكفر بهمزتين على التحقيق لأن أصلها أمّمة مثل: مثال وأمثله وعماد وأعمدة، ثم أُدغمت الميم التي هي عن أفعلة في الميم الثانية ونُقلت حركتها إلى الهمزة الساكنة التي هي فاء الفعل فصار أئمة، فإنّما كتبت الهمزة الثانية ياءً لما فيها من الكسرة وهي لغة تميم، وقرأ الباقون: أيمة (بهمزة واحدة) من دون الثانية طلبًا للخفّة، أئمّة الكفر: رءوس المشركين وقادتهم من أهل مكة.
قال ابن عباس: نزلت في أبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وسائر رؤساء قريش يومئذ الذين نقضوا العهد، وهم الذين همّوا بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد: هم أهل فارس الروم، وقال حذيفة بن اليمان: ما قُوتل أهل هذه الآية ولم يأت أهلها بعد {إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} عهودهم، جمع يمين أي وفاء باليمين. قال قطرب: لا وفاء لهم بالعهد وأنشد:
وإن حَلَفَتْ لاينقض النّأيّ عهدَها ** فليس لمخضوب البنان يمين

الحسين وعطاء وابن عامر: لا إيمان لهم بكسر الهمزة، ولها وجهان: أحدهما لاتصديق لهم، يدل عليه تأويل عطية العوفي قال: لا دين لهم ولا ذمّة، فلا تؤمنوا بهم فاقتلوهم، حيث وجدتموهم فيكون مصدرًا من الإيمان الذي هو ضد الاخافة قال الله عز وجل: {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم والمظاهرة عليكم، وقيل: عن الكفر. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} أي نقضوا عهدهم الذي عقدوه بأيمانهم.
{وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ} يحتمل وجهين:
أحدهما: إظهار الذم له.
والثاني: إظهار الفساد فيه.
{فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} فيهم ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنهم رؤساء المشركين.
والثاني: أنهم زعماء قريش، قاله ابن عباس.
والثالث: أنهم الذين كانوا قد هموا بإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله قتادة.
{إِنَّهُم لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} قراءة الجمهور بفتح الألف، من اليمين لنقضهم إياها. وقرأ ابن عامر: {إِنَّهُم لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} بكسر الألف، وهي قراءة الحسن. وفيها إذا كسرت وجهان:
أحدهما: أنهم كفرة لا إيمان لهم.
والثاني: أنهم لا يعطون أمانًا. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {وإن نكثوا أيمانهم} الآية.
النكث النقض وأصله في كل ما قبل ثم حل، فهي في الأيمان والعهود مستعارة، وقوله: {وطعنوا في دينكم} أي بالإستنقاص والحرب وغير ذلك مما يفعله المشرك، وهذه استعارة ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر أسامة: إن تطعنوا فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل، الحديث.
قال القاضي أبو محمد: ويليق هنا ذكر شيء من طعن الذمي في الدين فالمشهور من مذهب مالك رحمه أنه: إذا فعل شيئًا من ذلك مثل تكذيب الشريعة وسب النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه قتل، وقيل إذا كفر وأعلن بما هو معهود من معتقده وكفره أدِّب على الإعلان وترك، وإذا كفر بما ليس من معهود كفره كالسب ونحوه قتل، وقال أبو حنيفة في هذا: إنه يستتاب، واختلف إذا سب الذمي النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم تقية القتل فالمشهور من المذهب أن يترك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يجب ما قبله» وفي العتبية أنه يقتل ولا يكون أحسن حالأ من المسلم، وقوله تعالى: {فقاتلوا أئمة الكفر} أي رءوسهم وأعيانهم الذين يقودون الناس إليه، وقال قتادة: المراد بهذا أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وغيرهما.
قال القاضي أبو محمد: وهذا إن لم يتأول أنه ذكرهم على جهة المثال ضعيف لأن الآية نزلت بعد بدر بكثير، وروي عن حذيفة أنه قال: لم يجيء هؤلاء بعد.
قال القاضي أبو محمد: يريد أن ينقرضوا فهم يحيون أبدًا ويقتلون، وأصوب ما في هذا أن يقال إنه لا يعنى بها معين، وإنما وقع الأمر بقتال أئمة الناكثين بالعهود من الكفرة إلى يوم القيامة دون تعيين، واقتضت حال الكفار العرب ومحاربي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون الإشارة إليهم أولًا بقوله: {أئمة الكفر} وهم حصلوا حينئذ تحت اللفظة إذ الذي يتولى قتال النبي والدفع في صدر شريعته هو إمام كل من يكفر بذلك الشرع إلى يوم القيامة، ثم تأتي في كل جيل من الكفار أئمة خاصة بجيل جيل، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {أيمة} بهمزة واحدة وبعدها ياء مكسورة، وقد روي عن نافع مد الهمزة، وروى عنه ابن أبي أويس {أأمة} بهمزتين وأصلها أأمة وزنها أفعلة جمع إمام كعماد وأعمدة، نقلت حركة الميم إلى الهمزة التي هي فاء الفعل وأدغمت الميم الأخرى وقلبت الهمزة ياء لانكسارها ولاجتماع همزتين من كلمة واحدة، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي {أأمة} والتعليل واحد، إلا أنهم لم يقلبوا الهمزة ياء، وقرأ المسيبي عن نافع {آيمة} بهمزة ممدودة، وقرأ هشام عن أبي عامر بمدة بين الهمزتين، وقرأ الناس الجم الغفير لا {أيمان لهم} على جمع يمين، وليس المراد نفي الأيمان جملة، وإنما المعنى لا أيمان لهم يوفى بها ويبر، وهذا المعنى يشبه الآية، وقرأ الحسن وعطاء وابن عامر وحده من السبعة {لا إيمان لهم}، وهذا يحتمل وجهين أحدهما لا تصديق، قال أبو علي وهذا غير قوي لأنه تكرير وذلك أنه وصف أئمة الكفر بأنهم {لا إيمان لهم} فالوجه في كسر الألف أنه مصدر من آمنه إيمانًا، ومنه قوله تعالى: {آمنهم من خوف} [قريش: 4] فالمعنى أنهم لا يؤمنون كما يؤمن أهل الذمة الكتابيون، إذ المشركون لم يكن لهم إلا الإسلام أو السيف، قال أبو حاتم فسر الحسن قراءته لا إسلام لهم.
قال القاضي أبو محمد: والتكرير الذي فر أبو علي منه متجه لأنه بيان المهم الذي يوجب قتلهم لا إسلام لهم. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وإن نكثوا أيْمانهم}
قال ابن عباس: نزلت في أبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وعكرمة ابن أبي جهل، وسائر رؤساء قريش الذين نقضوا العهد حين أعانوا بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله، فأُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسير إليهم فينصر خزاعة، وهم الذين همُّوا باخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأما النكث، فمعناه: النقض.
والأَيمان هاهنا: العهود.
والطعن في الدِّين: أن يعاب، وهذا يوجب قتل الذميّ إذا طعن في الإسلام، لأن المأخوذ عليه أن لا يطعن فيه.
قوله تعالى: {فقاتلوا أئمة الكفر} قرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {أئمة} بتحقيق الهمزتين.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: بتحقيق الأولى وتليين الثانية.
والمراد بأئمة الكفر: رءوس المشركين وقادتهم.
{إنهم لا أَيْمان لهم} أي: لا عهود لهم صادقة؛ هذا على قراءة من فتح الألف، وهم الأكثرون.
وقرأ ابن عامر: {لا إِيمان لهم} بالكسر؛ وفيها وجهان ذكرهما الزجاج.
أحدهما: أنه وصف لهم بالكفر ونفي الإيمان، والثاني: لا أمان لهم، تقول: آمنته إيمانًا، والمعنى: فقد بطل أمانكم لهم بنقضهم.
وفي قوله: {لعلهم ينتهون} قولان:
أحدهما: عن الشرك.
والثاني: عن نقض العهود.
وفي لعل قولان:
أحدهما: أنها بمعنى الترجِّي، المعنى: ليرجى منهم الانتهاء، قاله الزجاج.
والثاني: أنها بمعنى كي، قاله أبو سليمان الدمشقي. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)}
فيه سبع مسائل:
الأولى قوله تعالى: {وَإِن نكثوا} النّكث النقض؛ وأصله في كل ما فُتِل ثم حُلّ.
فهي في الأيمان والعهود مستعارة.
قال:
وإن حَلَفَتْ لا ينقض النّأيُ عهدها ** فليس لمخضُوب البَنَان يَمِينُ

أي عهد.
وقوله: {وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ} أي بالإستنقاض والحرب وغير ذلك مما يفعله المشرك.
يُقال طعَنه بالرمح وطعن بالقول السيء فيه يطعُن، بضم العين فيهما.
وقيل: يَطْعُن بالرمح (بالضم) وَيَطْعَن بالقول (بالفتح).
وهي هنا استعارة؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم حين أمّر أُسامة: «إن تَطْعنوا في إمارته فقد طَعنتم في إمارة أبيه من قبلْ وايم الله إن كان لخلِيقًا للإمارة». خرّجه الصحيح.
الثانية استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب قتل كلّ من طعن في الدِّين؛ إذ هو كافر.
والطعن أن ينسب إليه ما لا يليق به، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدين؛ لما ثبت من الدليل القطعي على صحة أُصوله واستقامة فروعه.
وقال ابن المنذر: أجمع عامّة أهل العلم على أن من سبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه القتل.
وممن قال ذلك مالك والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعيّ.